فلسفة اللغة واللسانيات يف الفكر املعاصر: على خطى "همبولت"...

Transcript

1 األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية فلسفة اللغة واللسانيات يف الفكر املعاصر: على خطى "همبولت"... Philosophy of Language and Linguistics in Contemporary Thought: On the Footsteps of Humboldt د. مصطفى بلبولة أستاذ حماضر "ا" كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف ملخص يمكن اعتبار التحول الذي حدث مع "همبولت" باهتمامه الكبير بالوظيفة األنثروبولوجية لل غات من خالل مفهوم "رؤية العالم" بمثابة ثورة "كوبرنيكية"في تاريخ الفكر الفلسفي اللغوي.فقد استشعر مبكرا األهمية التي تكتسيها إشكالية تحديد طبيعة اإلنسان من منظور أنثروبولوجي.ومع ذلك يبدو أن فكر "همبولت" لم يحظ بما يستحقه من عناية فهو لم يسترع اهتمام الفالسفة ألنه عندهم ينتمي إلى دائرة األلسنيين ومعظمهم لم يشتغل على األقل قبل بالمنعطف اللغوي باإلشكاليات التي تطرحها عالقة اللغة بالفكر والتأثير المتبادل بينهما. كما أنه لم يسترع اهتمام األلسنيين باستثناء بعض الحاالت مثل "إميل بنفينيست". ويبدوأن إغفال القيمة العلمية والفلسفية ألعماله من قبل معاصريه راجع إلىسوء تقدير وإلى كون أفكاره قد جاءت ضد تيار عصره وفي غير زمانها. وفي هذه الورقة سنحاول تبيان أن"همبولت" قد أسس لتقليد جديد في تاريخ الفكر اللغوي إن على مستوى الدرس الفلسفي أو على مستوى الدرس اللساني. فهل يمكن اعتبار األفكار اللغوية المعاصرة تنويعات لفكر "همبولت" وامتدادا آلرائه أم أنها مجرد تقاطعات مستقلة وغير مقصودة الكلمات الدالة : رؤية العالم األنثروبولوجيا الفلسفية الل سانيات األنثروبولوجية الل سانيات التزامنية فلسفة األشكال الرمزية فرضية وورف ابير النسبية اللغوية التنوع اللغوي مقوالت اللغة مقوالت الفكر. Abstract It s legitimate to consider the mutation that occured with Humboldt, by the interest that he attributed to the anthropological role of language, through the concept of " the world view", as a Copernican revolution in the history of the philosophical-linguistic thought. Indeed, Humboldt, very early, had the intuition of the significance of the problem of human nature from the anthropological point of view. However, it seems that Humboldt s thought didn t spark neither the interest of philosophers for whom he was a linguist nor the interest of the linguists for whom he was a philosopher. Maybe because his work has not been estimated at its true value and its ideas were untimely. This paper aims to show that the work of Humboldt has found a new tradition concerning the linguistic thought, both on a philosophical level as well as Linguistics. Therefore, can we consider modern linguistic ideas as variations of Humboldt s thinking, or is it only unintended interference? Keywords: World view, Philosophical Anthropology, Anthropological Linguistics, Synchronic Linguistics, Philosophy of Symbolic forms, Sapir, Whorf Hypothesis, Linguistic Relativity, Linguistic Diversity, Categories of Thought, Categories of Language. 40 األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية. ب/ قسم األداب و الفلسفة. العدد - 18 جوان ص

2 مقدمة لقد جتاوزت اللسانيات املعاصرة األطروحات التقليدية وقو ضت التصور الكالسيكي لل غة وللمعنى فلم تعد اللغة جمرد مدونة من الكلمات تدل على أشياء تقابلها يف الواقع وتكون هذه اللسانيات بذلك قد طعنت يف فرضية تكافؤ اللغات ومشروعية الرتمجة على املستوى النظري على األقل. وقد ب د ئ هذا التجاوز مع "همبولت" وأكمله الفالسفة واأللسنيون الذين انتهجوا اخلط اهلمبوليت من الكانطيني اجلدد واهلمبولتيني اجلدد حيث أصبحت اللغة عندهم تعرب عن "رؤية أصيلة للعامل" وحتمل بداخلها عناصر تعرب عن جتارب األجيال السابقة وطريقة تقطيعهم للواقع وفهمهم له. فقد رفض "همبولت" تلك الفكرة اليت كانت حتصر حقيقة اللغات يف كونها وسيلة إلعطاء أمساء خمتلفة صوتيا لعامل من األشياء والتصورات املوجودة مسبقا. لكن يبدو حسب "يورغان ترابنت" أن مشروع "همبولت" اللغوي جاء يف غري أوانه حيث إنه ابتعد كثريا عن التيار السائد يف علوم اللغة آنذاك. ففي الوقت الذي نشرت فيه أعماله كانت اللسانيات قد اختارت لنفسها منحى أساسه الدراسة التارخيية املقارنة يف حني أن األسس اليت يقوم عليها مشروعه اللغوي ذو التوجه الفلسفي هي البحوث التزامنية والوصف البنيوي لل غات. ومن ثم فإن اللسانيات التارخيية املقارنة ال تشكل إال جزءا بسيطا من جمموع املشروع اهلمبوليت. ورغم أن أقطاب اللسانيات التارخيية املقارنة كانوا يستأنسون بنصوص "همبولت" فإنهم «كانوا على وعي باملسافة اليت تفصل بني علمهم وبني الدراسة املقارنة لل غة ذات التوجه الفلسفي عند "همبولت"» )1( معتربين إياها بعيدة عن الطابع العلمي. لقد اجتهد بعض األلسنيني يف النصف الثاني من القرن التاسع عشر يف البحث عن بعض العناصر اهلمبولتية يف اللسانيات التارخيية اليت اعتنت أساسا بالدراسات اهلندو أوروبية لتنتهي وهي يف أوج تطورها إىل «أنه ال يوجد قاسم مشرتك بني الروح اهلمبولتية ومقاصد لسانيات ذلك العصر«)2(. وهذا يعين حسب "يورغان ترابنت" «أن االستشهاد املتكرر بأقوال "همبولدت" يف نصوص أ ل س ن ي ي القرن التاسع عشر كان خيفي ببساطة حقيقة أن أولئك الذين عملوا على إعادة إحياء اهلدف الذي كان يرمي إليه مشروع "همبولت" والوصول به إىل منتهاه مل يكونوا إال أقلية مشك لة لتيار مضاد لل سانيات التارخيية املقارنة السائدة آنذاك» )3(. ورغم أن األطروحات اجلديدة اليت تضمنها مشروع "همبولت" واليت شكلت ثورة يف تاريخ الدرس اللغوي مل حتظ باهتمام كبري يف بداية األمر وخباصة يف الفرتة اليت راجت فيها اللسانيات التارخيية املقارنة فقد كان ل"همبولت" أتباع حقيقيون ميكن تصنيفهم إىل جيلني غري أننا سنمر هنا بسرعة على بعض رجال اجليل األول ونفصل بعض الشيء فلسفة اللغة واللسانيات يف الفكر املعاصر:على خطى "همبولت"... عند التطرق إىل أقطاب اجليل الثاني نظرا للقرابة املوجودة بني أفكارهم وأفكار "همبولت". التقليد اهلمبوليت وحلظة التأسيس يف منتصف القرن الثامن عشر برزت إىل الوجود بعض املساءالت اليت زعزعت االعتقاد بأن اللغة هي نظام من العالمات يعكس العامل ويعرب عنه وبالتالي فإن هذا العامل يكون سابقا عليها وواحدا يف كل احلاالت وهي مساءالت كان مدارها إعادة طرح إشكالية عالقة اللغة بالواقع وبالفكر وبروح األمة اليت تتكلمها وذهنيتها. فوجد الدرس اللغوي نفسه يف هذه احلقبة أمام منعطف جديد مل تعد فيه اللغة جمرد وسيلة للتعبري بل أصبح ي نظر إليها باعتبارها مستودعا للفكر وصورة له. ومن النتائج املباشرة اليت تلزم عن هذا التصور الثوري لوظيفة اللغة أن اختالف اللغات وتنوعها ليس جمرد اختالف على مستوى البنى الصوتية والرتكيبية فحسب بل هو اختالف أعمق من هذا بكثري إنه اختالف يوج ه إدراك أفراد هذه األمة أو تلك للعامل وحيدد الصورة اليت تكون هلم عن هذا العامل. وليس من الشطط القول بأن "فيلهلم فون همبولت" كان من األقطاب البارزة يف هذا االجتاه اليت أثارت تلك املساءالت بل ميكن اعتباره مؤسسا لتقليد جديد يف الدرس اللغوي كما ميكن اعتبار أفكاره إرهاصا ملا سيسمى فيما بعد باملنعطف اللغوي. وتتلخص األطروحة اليت تضمنتها فلسفة "همبولت" واليت تبناها عدد من الفالسفة واأللسنيني بعده يف أن اللغة ليست جمرد أداة للتعبري بل هي نظام ينطوي على جتارب األجيال السابقة وينقل لألجيال الالحقة "رؤية للعامل" ختتلف متاما عن "رؤى العامل" اليت تعكسها اللغات األخرى. فكل لغة تنظم العامل بطريقتها اخلاصة. وتشكل اللغة مبجموع ألفاظها وتراكيبها يف منظور "همبولت" أطرا ملقوالت الفكر وضربا من الفهم القبلي إلدراكنا للعامل حيث إن هناك ارتباطا ال ي ف ك بني تركيب اللغة وصورتها الداخلية وبني إدراكنا اخلاص للعامل. فكل لغة ترسم حول األمة اليت تتكلمها دائرة ال ميكن اخلروج منها إال لندخل يف دائرة تكون رمستها لغة أخرى. لقد استشعر "همبولت" مبكرا األهمية اليت تكتسيها إشكالية حتديد طبيعة اإلنسان من منظور أنثروبولوجي وكانت أنثروبولوجيته الفلسفية و"لسانياته" مقاربة تستمد جذورها املتشعبة من التحوالت العلمية اليت شهدها القرن الثامن عشر واليت أفرزت مع بداية القرن التاسع عشر رهانات نظرية أصيلة بالغة األهمية حيث أصبح مفهوم اإلنسان الذي كان إىل غاية هذه الفرتة موضوع حبث داخل اخلطاب الفلسفي اجملرد ينزع إىل االستقاللية ليصري موضوع علم جديد: األنثروبولوجيا. وإذا جاز لنا أن نتحدث عن ثورة "كوبرنيكية" يف فلسفة "همبولت" اللغوية فليس معنى ذلك أنها كانت جمرد تعديل 41 األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية. ب/ قسم األداب و الفلسفة. العدد - 18 جوان ص

3 د. مصطفى بلبولة أو تغيري على مستوى اجلانب املنهجي يف الدراسات اللغوية وإمنا هي م ش ك ل ة أصيلة ملفهوم اللغة وهلذا فإن الوقوف على حتليله ملفهوم اللغة والبحث عن حلظة التأسيس عنده سيكون مبثابة خط التوجيه للمسك باملظاهر الثورية يف نظريته اللغوية. وميكن اختزال هذا البعد الثوري يف مستويني أساسيني هما املستوى النقدي واملستوى البنائي ملفهوم اللغة. ففي حماولته لبناء مفهوم اللغة اصطدم "همبولت" منذ البداية بأحكام مسبقة كانت تبدو بديهيات بالنسبة إىل سياقها التارخيي وتتعلق أساسا مبشكل يت عالقة اللغة بالفكر وعالقة اللغة بالعامل. وفحوى احلكم املسبق األول االعتقاد بأن إنتاج اللغة ي تزل يف االستجابة حلاجة التواصل. فرغم أن "همبولت" ال ينكر أهمية هذه الوظيفة فإنه يرى فيها باإلضافة إىل ذلك الشرط الضروري لتطوير احلياة الروحية والفكرية إذ يقول «على مستوى احلياة النباتية ]=البيولوجية[ احملضة اليت يعيشها اإلنسان على سطح األرض فإن احلاجة هي اليت تدفع الفرد إىل االحتاد مع اآلخرين وهو أمر يقتضي استعمال اللغة ذلك الشرط الضروري إلجناز أعمال مشرتكة بفضل إمكانيات الفهم اليت تتيحها ولكنها أيضا شرط للتطور الروحي ]=الفكري[ حتى بالنسبة إىل احلياة الداخلية املنطوية على ذاتها» )4(. فإذا كان "همبولت" يف هذا النص يؤكد على الوظيفة االجتماعيةلل غة فإنه قبل هذا يؤكد أيضا على أن املنظور االجتماعي لل غة تابع وثانوي وليس أوليا وال ميكن فهمه إال من منظور أعلى رتبة منه وهو املتطلبات الداخلية حيث يقول:»إن الفرد ال ي ك ف عن انتمائه إىل اجلماعة أي أمته وإىل اجلماعة اليت تنتمي إليها أمته وأخريا إىل النوع ]اإلنساني[ بكامله ومهما كانت الزاوية اليت ننظر منها فإن حياته مرتبطة يف جزء منها بالوجود االجتماعي إن منظور الشروط اخلارجية الذي هو منظور تابع أو منظور الشروط الداخلية الذي هو منظور أرقى يقوداننا مرة أخرى إىل ذلك...«)5(. ومعنى هذا هو أن "همبولت" يضع املنظور الداخلي الروحي للفرد كأساس لل غة قبل أن تكون من مقتضيات احلياة اخلارجية االجتماعية فهو يقول يف هذا الشأن «إن إنتاج اللغة يستجيب حلاجة داخلية لإلنسانية فهي أبعد من أن خت تزل يف جمرد حاجة خارجية موج هة إىل التواصل االجتماعي إنها حمايثة للطبيعة اإلنسانية وهي الشرط الضروري الذي يسمح هلا بإبراز القوى الروحية اليت تسكنها والوصول إىل رؤية العامل«)6(. إن طابع احملاي ثة والتأصل لل غة يف الطبيعة البشرية يزحيها من وضعها كمجرد شرط عرضي تابع ملقتضيات احلياة االجتماعية إىل وضع أرقى هو كونها شرطا ضروريا مالزما جلوهر الطبيعة البشرية وهذا التغيري الذي ي دخله "همبولت" على وظيفة الل غة هو قلب الجتاه املعادلة الكالسيكية بني اللغة والتواصل فعوضا عن أن يكون التواصل هو الدافع إلنتاج اللغة فإن اللغة وحبكم ضرورة داخلية هي اليت تنتج التواصل. أما احلكم املسبق الثاني الذي "ثارت" فلسفة "همبولت" اللغوية ضده هو أن اختالف اللغات ليس سوى اختالف على مستوى العالمات والبنى الصوتية وهو اختالف حسب هذا االعتقاد ال يؤثر إطالقا يف حقيقة األشياء والواقع أي يف "رؤية العامل" حيث تبقى األشياء والتصورات موجودة بشكل مستقل عن اللغات. ويذهب "همبولت" إىل أن االنسياق وراء هذا التصور أمر طبيعي يف اإلنسان ال ميكنه االنفالت منه ما مل يفكر يف اللغة تفكريا نقديا ومنظما وذلك مل ا يبدو عليه هذا التصور من البداهة ولكنها بداهة زائفة يف منظور "همبولت" حيث يقول يف هذا املعنى «حيصل االعتقاد ]لدى اإلنسان[ بأن اللغات املختلفة ال تتعدى كونها تشري بكلمات خمتلفة إىل مجلة من األشياء والتصورات املوجودة بشكل مستقل عنها حيصل ذلك قبل أن يفكر بصورة أعمق يف اللغة وهو أمر طبيعي بالنسبة إىل اإلنسان إىل حد يصعب عنده التحرر من ذلك«)7(. ومن هذه االعرتاضات اليت يبديها "همبولت" على تلك األحكام املسبقة اليت تسيطر على اإلنسان بشكل طبيعي تظهر اللحظة اليت ترتسم فيها مالمح ثورة فعلية تتجه حنو بناء مفهوم جديد لل غة يؤسس لدرس لغوي جديد. وإىل جانب مظاهر املستوى النقدي اليت يواجه بها "همبولت" تلك األحكام املسبقة واليت ي ب ني من خالهلا عن كثري من األصالة يف حتديده ملفهوم اللغة فإن هناك مستوى إجيابيا تكشف عنه مظاهر يبدو من خالهلا "همبولت" يف حلظة إنشاء املفهوم دون االرتكاز على عالقة التضاد اليت يكشف عنها املستوى النقدي. وأول هذه املظاهر مت ييز ه بني اللغة واللسان وهو متييز قد ال جند صعوبة كبرية يف إدراكه يف العربية أو يف الفرنسية ما دام هناك حد ان متمايزان للتعبري عن هذين املفهومني. ويقول "همبولت" يف هذا مبينا وظيفة علم اللغة العام والذي يقصد به ما نسميه بفلسفة اللغة: «إن املهمة اخلطرية والبعيدة األطراف لعلم اللغة العام هي دراسة تنوع بنية القدرة اللغوية لإلنسانية ووصف السمات املكو نة هلا انطالقا من مفاهيم منتقاة مبهارة وترتيب ها بطريقة أكثر بساطة والرجوع إىل منبع هذا التنوع وهي قبل كل شيء تبيان تأثريه على ذهنية األفراد املتكلمني ووجدانهم وإدراكهم وت ت ب ع مسرية التطور الروحي لإلنسانية من خالل كل التحوالت التارخيية عن طريق اللغة اليت تتجذر بعمق يف هذا التطور وتصاحبه... إني أتكلم هنا عن علم اللغة )sprachkunde( ال عن علم األلسن )sprachenkunde( كما جرت العادة يف ذلك«)8(. فليس من الصعب أن نالحظ البعد الثوري الذي أدخله "همبولت" يف حتديده ملفهوم اللغة فالعادة جرت آنذاك مبا ليس فيه متييز بني اللغة واللسان وال متييز بني البحث الفلسفي يف اللغة والدراسة العلمية لأللسن هذا التمييز الذي مل يتخذ طابعا رمسيا يف عرف العلماء والفالسفة إال مع "فرديناند دوسوسري". 42 األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية. ب/ قسم األداب و الفلسفة. العدد - 18 جوان ص

4 وهناك موطن آخر مييز فيه "همبولت" بني مستويني يف اللغة اللغة من حيث هي ناتج واللغة من حيث هي فاعلية منت جة فيقول «إن اللغة يف ذاتها ليست إجنازا تاما )ergon( وإمنا هي نشاط يف طور اإلجناز )9)».)energeia) إن الفرق بني اللغة كناتج واللغة كفاعلية منت جة يكشف عن وجود مستوى وصلت إليه اللغة مل يستغرق بعد ولن يستغرق أبدا املخزون اللغوي الكامن من حيث هو إمكانيات غري منتهية وغري قابلة للنفاد والذي يسمح بإنتاج صور جديدة. ومن ثم فإن اللغة ال تنحصر يف ما ت ك ل م به من مجل ما دام هناك مستوى أعمق وبالتالي فإن هذا املستوى السطحي ليس هو املوضوع احلقيقي لدراسة اللغة وإمنا هو ذلك املستوى العميق املنظ م الذي تسمح دراسته مبعرفة اآلليات اليت تتولد مبقتضاها تلك الصور اجلديدة. ومعنى هذا أن اللغة ال تتحدد باعتبارها ناجتا.)energeia( وإمنا تتحدد باعتبارها فاعلية منتجة )ergon( ويظهر جليا من هذا التمييز بني املستوى السطحي ل لغة من حيث هي نتاج وبني مستواها العميق من حيث هي نشاط منت ج أن ما يسميه "تشومسكي" بالبنية السطحية والبنية العميقة لل غة يف لسانياته التوليدية ليس إال صورة متطورة ملا ذهب إليه "همبولت" وهو األمر نفسه الذي يذهب إليه "إميل بنفينيست" عندما مييز بني مستوى الصورة ومستوى الوظيفة يف اللغة وهذا املستوى األخري هو الذي جيب أن يكون موضوعا وهدفا لل سانيات )10(. لكن مثة عنصرا آخر يقحمه "همبولت" يف بناء مفهومه لل غة ينضاف إىل العناصر اليت سبق ذكرها وقد يكون أبلغ في إبراز الطابع الثوري يف فلسفته اللغوية وهو عنصر حيدد البعد األنثروبولوجي وامليتافيزيقي للمفهوم حيث يصرح يف األسطر األوىل من كتابه KaviIntroduction à l œuvre sur le بأن مثة عالقة وطيدة بني توزع النوع البشري إىل شعوب ومجاعات متنوعة وبني تنوع اللغات واللهجات حيث يربط بني الظاهرتني ربطا سببيا والظاهرتان بدورهما راجعتان إىل علة أرقى منهما مستوى وهي تلك الديناميكية الفعالة اليت تنطوي عليها روح اإلنسانية. فاللغة هي الفضاء الذي تتجلى فيه مباشرة هذه الروح وتعرب عن ذاتها. فهو يقول يف هذا السياق: «إن توزع النوع البشري إىل شعوب ومجاعات إثنية مرتبط ارتباطا وثيقا بتنوع اللغات واللهجات وهاتان الظاهرتان ختضعان بدورهما إىل ظاهرة ثالثة من مستوى أعلى هي القدرة اليت متلكها احلركية الروحية لإلنسانية على الظهور مع إبراز صور جديدة م ع د ة بشكل أفضل يف الغالب» )11(. إن ظاهرت ي توزع اإلنسانية إىل شعوب وأمم وتنوع اللغات جتدان مبدأ تفسريهما يف هذا املستوى الروحي. وبأسلوب هيجلي حمض يذهب "همبولت" إىل أن هذا التمظهر الذاتي للروح من خالل ذلك التنوع يف اللغات واألمم ليس سوى أشكال متنوعة تعرب عن تلك الغائية اليت تتحقق من خالل حركة الروح. فكل لغة هي جتل خاص أو فيض حلركة الروح تلك فلسفة اللغة واللسانيات يف الفكر املعاصر:على خطى "همبولت"... ومن ث م فإن أية حماولة لدراسة أشكال النشاط لدى أمة ما جيب أن تركز على «نقطة الوصل بني اللغة والقوى الروحية اليت تغذي األمة وتعطيها أسلوبها اخلاص«)12(. إن هذه الديناميكية الروحية ليست جمرد مل كة أو خاصية لإلنسان بل هي جوهر اإلنسانية وليس الروح جوهرا جمردا وإمنا هو كينونتها. واللغة إذن هي متظهر لتلك الكينونة أعين الروح ولكن كونها متظهرا له ال يعين أنها نتيجة له بل هي جتسيد لديناميكية الروح أثناء نشاطه )13( وكأن "همبولت" ال يريد أن يضع أي فاصل بني اللغة والروح بل يراهما أمرا واحدا ذا وجود داخلي من جهة وجتل خارجي من جهة أخرى. فالعالقة بينهما ليست عالقة نتيجة بسبب بقدر ما هي عالقة تطابق ف» اللغة هي االنتشار احلر للقوى الروحية لإلنسانية«)14(. إن جتميع العناصر اليت تكشف عن وجود "ثورة كوبرنيكية" يف فلسفة "همبولت" اللغوية يسمح لنا باستنتاج االجتاهات األساسية اليت أخذتها هذه الثورة. ويرتكز االجتاه األول على العالقة القائمة بني اللغة والفكر من جهة والعالقة املوجودة بني اللغة والعامل من جهة أخرى. فقد اتضح أن اللغة ال خت تزل يف كونها جمرد تعبري عن الفكر ذلك الفكر الذي ال يتشكل بصورة مستقلة عن ذلك التعبري كما أن وظيفتهايف عالقتها بالعامل ال تنحصر يف جمرد التعبري عنه فهو ليس عاملا جاهزا وتاما ذا وجود مستقل عنها. فالبعد الثوري الذي أحدثه "همبولت" يف هذا اجملال هو رفضه العتبار اللغة جمرد واسطة بني طرفني سابقني هلا يف الوجود بل إن وظيفتها تأسيسية فليست اللغة هي اليت متتثل للعامل وللفكر وتتشكل مبقتضاهما بل العكس هو الذي حيدث. أما االجتاه الثاني الذي يرتتب على هذا وبصورة موازية فيتمثل يف كون الصورة اللغوية ال ترتد إىل موضوعية العامل والفكر بل إىل نشاط داخلي يف اللغة فاللغة هي هذا النشاط الذي ت شك ل به نفس ها بنفسها )15(. وأما االجتاه الثالث فيتمثل يف أن "همبولت" جعل من اللغة الفضاء املتميز الذي تلتقي فيه العلوم الروحية وذلك ألن «اللغة اخلاصة تركيب حاصل بني الفرد واألمة واللغة يف مشوليتها تركيب حاصل بني األمة واإلنسانية وبني الفردية واإلنسانية. ففي ب ن ى اللغة نفسها ترتسم إمكانية معرفة لإلنسان أي إمكانية أنثروبولوجيا. إن الثورة الكوبرنيكية تبني هنا أن اللغة هي شرط إمكانية كل معرفة لإلنسان» )16(. على خطى همبولت ا اجليل األول لعل أقربهم إىل "همبولت" مذهبا يف هذا اجليل "هيمان ستاينتال" 1823]. [1899 ) STEINTHAL ( Heymann فرغم بعض التعديالت اجلذرية اليت أدخلها على املشروع اهلمبوليت فإنه سار على خطه يف معارضته للتوجه الرامي إىل»اختزال 43 األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية. ب/ قسم األداب و الفلسفة. العدد - 18 جوان ص

5 د. مصطفى بلبولة اللسانيات كلها يف برنامج اللسانيات التارخيية املقارنة حمتفظا باملنظور الفلسفي ]الذي ميز مشروع "همبولت"[ واملقاربة البنيوية والتزامنية ملختلف اللغات» )17( وإليه يعود الفضل أيضا يف ضمان االستمرارية لل سانيات األنثروبولوجية الرامية إىل التنقيب عن "مسات" اللغات أعين ذلك النهج الذي أراد "همبولت" من خالله أنيجعل اللسانيات مقاربة أنثروبولوجية من شأنها الكشف عن مسات األمم. أما الع ل م الثاني يف لسانيات القرن التاسع عشر والذي انتهج نهج "همبولت" يف معارضة التوجه الذي خيتزل اللسانيات يف دراسة اللغات اهلندو أوروبية فهو "أوغست فريدريك بوت" ] 1802 [ 1887 POTT).(August Friedrich فرغم أن انتماءه إىل التقليد اهلمبوليت كان أقل بروزا من انتماء "ستاينتال" إليه فإنه قد وسع دائرة اهتمامه بالوصف التزامين ل لغات )18(. ويعترب "جورغ فون د ر غابلنتز" ( Georg von der GABELENTZ [ ] ) الوجه الثالث من اجليل األول الذين اخنرطوا يف التقليد اهلمبوليت فقد رفض هو أيضا انغالق اللسانيات على برنامج دراسة اللغات اهلندو أوروبية وقد أصبح يف عام 1884 الناشر الثاني جمللة Zeitschrift( Internationale fϋr (اليت allgemeine sprachwissenschaft مل تعمر طويال وكانت منربا له للدعوة إىل»ضرورة انفتاح اللسانيات على املشكالت اللسانية العامة واإلشكاليات الفلسفية والدراسة الوصفية التزامنية وحتى على املسائل السيميوطيقية«)19(. وميكن أن نالحظ على العموم أن مالمح "لسانيات" "همبولت" كان هلا حضور فعلي يف الدراسات اليت اهتمت باللغات اخلارجة عن دائرة األسرة اهلندو أوروربية وملا كانت يف مالحمها األساسية متعارضة مع النزعة السائدة يف لسانيات القرن التاسع عشر فإنها شكلت بذلك «خزانا لكل أصناف اللسانيات "املعار ضة"«)20( وهي دراسات ذات طابع أنثروبولوجي تعنى أساسا باستكشاف الشعوب البدائية. وقد أفضت هذه الدراسات فيما بعد إىل علم األجناس وهلذا السبب ليس غريبا أن تكون اللسانيات األمريكية الناشئة مشحونة بروح "لسانيات" "همبولت" ابتداء من "بيرت ستيفن دوبونسو" 1844 )[ 1760 PONCEAU ( Peter Stephen Du ] حتى "فرانز بواس" و"إدوارد سابري" و"بنيامني لي وورف" ليتأسس بذلك "تقليد همبوليت" يف أمريكا. ب اجليل الثاني 1 أرنست كاسرير وإذا كانت اللسانيات املعاصرة بتأكيدها على وصف "بنية" اللغة تتعارض يف جوهرها مع اللسانيات التارخيية فإنها بذلك تعيد االرتباط بهذا التيار اهلمبوليت. ويذهب "يورغان ترابنت" إىل «أن "بلومفيلد" فعل ذلك صراحة وأن أعمال "هيلمسالف" الذي حييل إىل "ستاينتال" أكثر مما حييل إىل "همبولت" حتتوي مصطلحات همبولدتية بشكل وافر وأن املخطط اإلمجالي لل سانيات التزامنية ل"سوسري" ميكن أن يندرج دون صعوبات كبرية ضمن التقليد اهلمبوليت» )21(. ومع بداية القرن العشرين يظهر "همبولت" من جديد على ساحة النقاشات الفلسفية مع "أرنست كاسرير" يف كتابه "فلسفة األشكال الرمزية" وقد كان من الكانطيني اجلدد الذين كرسوا أطروحات "همبولت" يف اللغة. وضمن طرح صريح يلتقي فيه "همبولت" مع "كانط" يؤكد "كاسرير" على «صالحية الكانطية مطالباالتحليل اللغوي بالتأكيد على األطروحة اجلوهرية التيتقضي بأن العالقة بني اإلنسان والعامل ليست أبدا عالقة ناسخ بنموذج أصلي بل هي عالقة بامل ب ين» )22(. البن اء ويذهب "كاسرير" إىل أن الفلسفة ونظرية املعرفة قد جتاوزتا التصورالذيجيعلمنمعارفناومناللغةومنالفنجمردصورة ذهنية تعكس الواقع املوضوعي بتقطيعاته األصلية وتنفي كل فاعلية للذات يف ذلك. وقد تكرس هذا التجاوز بصورة أعمق مع الثورة "الكوبرنيكية" اليت أحدثتها نقدية "كانط" تلك النقدية اليت تؤكد على أن انتظام الواقع يف الذهن إمنا هو نتاج لفاعلية الذات. فليس بني عناصر الواقع رابط أصلي جاهز بل الرتكيب الذي تصنعه مل كة التمثل هو مصدر ذلك الرابط )23(. وليس عسريا إدراك التشابه بني هذا وبني ما يذهب إليه "همبولت" الذي يؤكد على أن وظيفة اللغة ال تنحصر يف متثيل واقع جاهز وثابت عن طريق عالمات خمتلفة بل إن اللغة تعمل هي نفسها على إنشاء تقطيعات هلذا الواقع. ويعتقد "كاسرير" أن"همبولت" بهذا الطرح الثوري لل غة قد فرض على علم النفس حتد يا جديد ا يقتضي األخذ بعني االعتبار بأن أشكال اللغة أو صورتها الداخلية جيب تفسريها بإرجاعها إىل هيئة نفسية لدى من يتكلم هذه اللغة أو تلك وهو ما أعطى دفعا جديدا لعلم النفس الذي مل يعد يكتفي بالظواهر النفسية يف ب عدها الفردي ليتناول القضايا املتعلقة بعلم النفس اجلماعي. ولكن هناك صعوبة منهجية سيصطدم بها علم النفس انطالقا من املهمة اجلديدة اليت أحلقها به طرح "همبولت" ألن هذا األخري كما يقول "كاسرير" كان يرى «أن التعريف احلقيقي لل غة جيب أن يكون توليديا. فلكي نفهم اللغة جيب أال نتوقف عند صورها ولكن جيب البحث عن القانون الداخلي لتشكل هذه الصور. فال حيق لنا أن نعترب اللغة شيئا ناجزا بل جيب عكس ذلك أن نرى فيها إنتاجا أو عمال للفكر يتكرر حقيقة«)24(. فاملشكل إذن يف نظر "كاسرير" هو كيف ننتقل من املنتوج الكالمي إىل الصريورة اليت يتم مبقتضاها إنتاج اللغة وهو املشكل الذي طرحته فيما بعد لسانيات تشومسكي وحاولت أن جتيب عنه. إن فلسفة األشكال الرمزية اليت ترى يف الدين والفن واألسطورة واللغة بل حتى العلم متظهرا لفاعلية الروح والفكر جتعل من اللغة جسرا يربط بني الذاتيواملوضوعي. ويذهب "كاسرير" 44 األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية. ب/ قسم األداب و الفلسفة. العدد - 18 جوان ص

6 إىل أن "همبولت" كان أول من عرب هذه الفكرة ألن العنصر الصوتي الذي هو أساس اللغة كلها «هو من جهة صوت متكل م به وبهذه الصفة فإنه صوت منت ج وم ش ك ل من ق ب ل ن ا ولكن من جهة أخرى وبصفته صوتا مستقب ال هو جزء من الواقع احلسي الذي حييط بنا. وهلذ فإننا ندركه ونعرفه ككائن "داخلي" و"خارجي" يف الوقت نفسه كطاقة صادرة من السريرة تنطبع وتتموضع خارج الشعور«)25(. إن قوة العالمات اليت اخرتعها الوعي لنفسه يف تلك األنظمة الرمزية أعين األسطورة والفن واللغة إخل... كانت ستكون لغزا لو مل تكن جذورها راجعة إىل نشاط أصيل للفكر. فمهما كانت هذه العالمات اللغوية أو الصور الفنية واألسطورية ذات مظهر حسي فإنها تنطوي على «حمتوى روحي حييل هو يف ذاته إىل ما وراء احلسي ولكن مت نقله يف صورة حمسوسة أو مرئية أو مسموعة أو ملموسة» )26(. فهذه الرموز إذن ليست سوى سند حسي مشحون مبحتوى روحي نابع من أعماق الوعي اإلنساني. ويعتقد "كاسرير" أن دراسة "همبولت" لل غة تتمحور يف ثالث حلظات حامسة وهي عبارة عن ثالثة تقابالت أساسية أو ق ل ثنائيات. تتمثل اللحظة األوىل يف تصوره للعالقة بني الذاتية واملوضوعية حيث يرى أن هناك عناصر كثرية من فلسفة "شيلينج" وفلسفة "كانط" تلتقي يف فلسفة "همبولت" اللغوية إذ إن هذا األخري استند كثريا إىل نقد ملكات املعرفة ليبحث عن النقطة اليت يذوب فيها التقابل بني الذاتية واملوضوعية وبني الفردية والكونية لتصبحا متالزمتني يف وحدة متعالية. فإذا مل يكن املوضوع يف عامل الظواهر عند"كانط" مقابال للمعرفة باعتباره مفارقا هلا بل إن مقوالت املعرفة هي اليت تؤطر هذا املوضوع وجتعله ممكنا فإن الصورة نفسها جندها عند "همبولت" حيث «إن ذاتية اللغة مل تعد تبدو اآلن كمجرد نهاية حت ول بيننا وبني إدراك الكائن املوضوعي بل كوسيلة إلعطاء االنطباعات احلسية صورت ها أي مل و ض ع ت ها. فاللغة شأنها شأن املعرفة ال تنشأ من املوضوع من حيث هو معطى فتكتفي بإعادة إنتاجه ولكنها عكس ذلك حتتوي يف داخلها على أسلوب لإلدراك خاص بالفكر وميثل حلظة حامسة يف كل متثلنا ملا هو موضوعي» )27(. يبدو واضحا أن هذا التصور يأتي يف سياق نقدي يتعارض مع الواقعية الساذجة اليت تستبعد كل دور للذاتية تلك الواقعية اليت ال ترى يف تنوع اللغات سوى تنوع يف األصوات اليت ال تعدو كونها وسيلة موجهة للوصول إىل املوضوعات. أما اللحظة الثانية وهي من مقتضيات األوىل فتتمثل يف التقابل بني مفهوم اللغة ك"أثر" أو عمل ناجز )ergon( وبني مفهومها كنشاط.)energeia( وكل دراسة هلا ال بد أن يكون هدفها هو اعتبارها نشاطا ال عمال ناجزا ألن «جوهر اللغة ال يكمن يف تلك العناصر اليت يكشف عنها التحليل والتجريد فلسفة اللغة واللسانيات يف الفكر املعاصر:على خطى "همبولت"... ولكن يف ذلك العمل املتكرر دوما والذي يقوم به الفكر من أجل أن جيعل الصوت املتمفصل قادرا على التعبري عن األفكار«) 28 (. وهذا التصور اهلمبوليت لل غة هو الذي يقتضي أن كل تعريف هلا جيب أن يكون "توليديا" وهو تصور جيعل الكالم الذي ينجزه األفراد يوميا جوهرا لل غة. وأما اللحظة الثالثة فتتمثل يف مفهوم الرتكيب أي يف تلك الوحدة الناجتة عن االئتالف الذي يذيب التقابل بني الصورة واملادة وهو تقابل جنده حاضرا بقوة أيضا عند "كانط" الذي يرى أن الصورة هي تعبري عن عالقة وملا كانت كل معرفتنا للظواهر ختتزل يف معرفتنا لعالقاتها الز م ك ان ية فإن الصورة هي اليت جتعل املعطى موضوعيا. فمل ك ة التمثل هي اليت توحد بني الشتات احلسي )29(. ويستند "كانط" حسب "كاسرير" إىل وحدة احلكم لوصف صورة الربط هذه اليت مصدرها الذات وهو باستناده إىل وحدة احلكم يستند بطريقة غري مباشرة إىل وحدة اجلملة ألن «احلكم يف نظره ليس شيئا آخر سوى إرجاع معارف معطاة إىل الوحدة املوضوعية لإلدراك ولكن من وجهة نظر اللغة فإن هذه الوحدة يعرب عنها يف الرابطة اليت توحد بني املوضوع واحملمول يف احلكم«)30(. إن "همبولت" حسب تعبري "كاسرير" يعمم على اللغة بكاملها ما قيل هنا عن احلكم وعن اجلملة حيث إنه بالنسبة إىل كل لغة تامة التكوين جيب أن تكون هناك حتديدات صورية إضافية تسمح بتصنيف التصور ضمن إحدى مقوالت الفكر أي حتديده من حيث هو جوهر أو صفة أو فعل وهذا التحديد من شأنه أن جيعل كل حالة فردية أو كلمة يف عالقة مع جمموع احلاالت املمكنة داخل اللغة أو اخلطاب وهذا العمل وحده حسب "همبولت" هو الذي يسمح لل غة بأن «متزج جانب نشاطها وت رت بهما: اجلانب النابع من الفكر بكل حرية واجلانب املخص ص حصريا الستقبال انطباعات العامل اخلارجي» )31(. إن هذا التصور الفلسفي األصيل لل غة يتطلب من جهة فسح اجملال إلعادة هيكلة اللسانيات ومن جهة أخرى جيعله ممكنا. وبهذا يكون "همبولت" نفسه قد شك ل منعطفا حامسا يف تاريخ اللسانيات بنقلها من مستوى الدراسة الفيلولوجيةالقائمة العامل مع روح على املقارنة إىل مستوى أرقى تلتقي فيه روح الفيلسوف. وجيد "كاسرير" يف اللغة وظيفة أخرى غري تلك املتمثلة يف التعبري عن األفكار والتواصل وغري تلك املتمثلة يف متثل العامل وتشكيله حيث يعتقد أن تلك القوة املالزمة لل غة تظهر فعاليتها أيضا يف تنظيم عامل العاطفة واإلرادة. فهي «ليست فقط الوسط الذي يتم فيه تبادل العواطف والرغبات كما يتم تبادل األفكار ولكن هلا دورا فعاال وأساسيا يف تكوين وعي اإلرادة» )32(. إن هذا الوظيفة اليت يلحقها "كاسرير" باللغة هي أيضا ما ذهب إليه "همبولت" و"هردر" من قبل وهو تصور يندرج عموما ضمن اخلط الرومانسي. 45 األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية. ب/ قسم األداب و الفلسفة. العدد - 18 جوان ص

7 د. مصطفى بلبولة 2 إدوارد سابري ويف نفس املسار الذي رمسه همبولت من قبل يذهب "إدوارد سابري" ]1884 ] 1939 إىل أن القدرة على الكالم لدى الفرد ال ترجع إىل عوامل طبيعية بقدر ما ترجع يف األساس إىل كونه يولد يف بيئة ثقافية. فلو ختيلنا غياب احلياة االجتماعية بالنسبة إىل الفرد فإنه لن يتعلم أبدا الكالم أي لن يستطيع تعل م كيفية التواصل وفق النظام التقليدي جملتمع خاص. وعلى هذا األساس يعرف "سابري" الكالم بأنه «نشاط إنساني يتغري بال حدود بقدر ما ننتقل من جمموعة بشرية إىل أخرى ألنه مرياث تارخيي صرف للمجموعة ونتاج الستعمال اجتماعي طويل األمد ]...[ فالكالم هو وظيفة غري غريزية مكتسبة إنه وظيفة ثقافية«)33(. أما القول بأن التشابه املوجود بني كلمات التعجب أو االستناد إىل الكلمات احملاكية رغم اختالفها بعضها عن بعض من لغة أخرى يدل على أنها من أصل غريزي فقول مردود ويستدل "سابري" على رفضه هلذا التصور بأن نسبة هذه الكلمات إىل جمموع اللغة نسبة ضئيلة جدا وليست ذات أهمية بالقدر الكايف الذي يدعم هذا الزعم. إن هذه املعطيات يف نظر "سابري" تفتح اجملال إلعطاء تعريف مشروع لل غة مستبعدا كل إمكانية بأن يكون مصدرها الغريزة حيث يعرفها بأنها»وسيلة إنسانية حمضة غري غريزية لتواصل األفكار واالنفعاالت والرغبات بواسطة نظام من الرموز اخرتعت هلذا الغرض«)34(. وإذا كانت اللغة مرتبطة بصورة ما ببعض األعضاء يف اجلسم فال يعين ذلك أنها وظيفة غريزية حمددة بيولوجيا بصورة قبلية وذلك ألن الوظائف األصلية هلذه األعضاء ليس هو الكالم وإمنا وظائف حيوية أخرى ومن ثم فهي أعضاء مستعارة بالنسبة لل غة وبالتالي «فلم يبق إال اعتبار اللغة نظاما متقنا يؤدي وظيفتهداخل املركب النفسي أو الروحي لإلنسان» )35( رغم أنه من غري املمكن إهمال هذا اجلانب النفسي الفيزيولوجي يف دراسة اللغة يف صورتها اجملسدة يف الكالم. ونالحظ هنا مدى التشابه بني هذا التصور وما ذهب إليه من ق ب ل التيار الرومانسي عموما و"هردر" و"همبولت" بوجه خاص حيث إن اللغة يف منظور هذين األخريين تنبثق من روح األمة. وإذا ثبت أن اللغة وظيفة ثقافية فإنها من جهة أخرى نظام رمزي فعال للتعبري عن حمتويات الثقافة مهما بلغت درجة تعقيدها فكل ثقافة جتد يف اللغة أداة للتعبري وال ميكن أبدا أن جند مادة لغوية غري حمم لة بالداللة. ويذهب "إدوارد سابري" إىل أن هناك ارتباطا وثيقا بني اللغة والفكر إىل حد يصعب عنده الفصل بينهما عمليا حيث يقول «إن اللغة متتزج مع عاداتنا يف التفكري بشكل معقد وحنن مبعنى من املعاني أمام شيء واحد» )36(. فإذا كان التناول الكالسيكي لل غة يرى فيها جمرد مدونة من األمساء يتناسب عددها مع العدد نفسه من األشياء فإن "سابري" يرفض هذا التصور لل غة الذي يراه ساذجا ويرى على خطى "هبولت" أن اللغات بالنسبة إليه «هي أكثر من كونها جمرد أنظمة للتعبري عن الفكر إنها مثل األلبسة اخلفية اليت حتيط بفكرنا وتعطي صورة دقيقة لتمثله الرمزي» )37(. إن الفكر يف منظور "سابري" ميكن أن يعر ف باعتباره ذلك احملتوى اخلفي أو الطاقة الكامنة العليا لل غة ومن ثم فإنه من املتعذر تصور أي تول د للفكر أو ممارسة يومية له مبعزل عن اللغة فكل زعم بأنه ميكن التفكري أو االستدالل من غري استعمال ل لغة هو وه م ال غري. إن هذه العالقة بني اللغة والفكر تنكشف لنا من خالل ذلك التفاعل املتبادل بينهما فإذا كانت الوسيلة جتعل املنت ج ممكنا فإن املنت ج يعمل على تطوير الوسيلة. فكل تصور جديد يظهر للوجود يكون مصحوبا باستعمال مشو ه ملادة لغوية قدمية وال يكتسب هذا التصور متايزه ووضوحه إال عندما جيد التعبري اللغوي اخلاص به «فبمجرد أن خت رتع الكلمة نشعر بصورة غريزية وبنوع من االرتياح بأن التصور قد أخذ بالنسبة إلينا صورة مرنة فعند امتالكنا للرمز فقط نشعر بأننا امتلكنا املفتاح الذي يعطينا املعنى الدقيق للتصور» )38(. إن هذا االرتباط الوثيق بني اللغة والفكر يف نظر "سابري" جيعلنا منيل إىل االعتقاد بأن اللغة هي من أقدم مظاهر الثقافة اإلنسانية بل هي أقدمها على اإلطالق وأنها «سابقة حتى على تلك التجليات األكثر بدائية للثقافة املادية وأن هذه التجليات مل تصبح ممكنة إال عندما تشكلت اللغة ذاتها من حيث هي وسيلة للتعبري والتواصل» )39(. إن الطابع الرمزي لل غة ال جيعل منها نظاما معزوال ومستقال عن التجربة املباشرة اليت حتيل إليها باعتبارها مرجعا وإمنا هناك تداخل حقيقي بينها إذ إن الكلمات واألشياء يرتبط بعضها ببعض إىل حد يصعب علينا عنده يف الغالب «الفصل الصريح بني الواقع املوضوعي والرموز اللغوية اليت حتيل إليها ومتتزج األشياء والصفات واحلوادث بالنسبة إلينا باحلدود اليت نستخدمها من أجل اإلحالة إليها«)40(. وبعبارات تذكرنا مبفهوم "رؤية العامل" عند "همبولت" وحتيلنا مباشرة إىل مضمون "فرضية "وورف سابري" يرفض "سابري" أن تكون اللغة حبكم عالقتها بالعامل جمرد عالمات باردة حيادية شبيهة بتلك الرموز الرياضية «فإذا كانت اللغة حتيل إىل التجربة وإذا كانت فوق ذلك قادرة على أن تصوغها يف قالبها وتفرض عليها تأويال فيجب أن ندرك أيضا أنها تستطيع أن تكون بديال هلا» )41(. وبهذا املعنى فمهما كانت اللغة شبيهة بالرياضيات يف رمزيتها فإنها مع ذلك ليست جمرد وسيلة بسيطة لإلحالة املباشرة حيث «إن استعمال بعض الكلمات ضمن سياق خاص ميكن أن يغري داللتها املباشرة تغيريا جذريا. ف"الرسالة" الواحدة ت ؤ و ل بطريقة خمتلفة 46 األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية. ب/ قسم األداب و الفلسفة. العدد - 18 جوان ص

8 حسب احلالة النفسية اليت يكون عليها "امل رس ل " جتاه حم د ثيه أو كذلك حسب التجليات السطحية املعرب ة مثل الرغبة أو الغضب أو اخلوف واليت تشحن الكلمات بداللة تتجاوز متاما قيمتهااألخالقية» )42(. فكون جزء كبري من كلمات اللغة ميكنها أن تكون مشحونة بدالالت خمتلفة يوحي إلينا بأن كل نشاط لغوي يفرتض وجود مستويني ميكن أن ميكن الفصل بينهما وميكن أن نسميهما بشكل تقريب نسقا مرجعيا ونسقا تعبرييا أو لنكن أكثر جرأة فنقول نسقا إحاليا ونسقا إحيائيا. فلسفة اللغة واللسانيات يف الفكر املعاصر:على خطى "همبولت" "بنيامني لي وورف" [ ] وبصورةموازيةملاذهبإليه "سابري" فقدانطلقتأعمال "بنيامني لي وورف" من اهتمامه اخلاص باللغات اهلندية األمريكية وقد صاغ معه الفرضية املعروفة بامسيهما انطالقا من دراسته للغة "اهلوبي"** hopi( )le أساسا فهو يصرح ابتداء من الصفحة األوىل من كتابه "اللسانيات واألنثروبولوجيا"*** بأنه توصل إىل نتيجة مفادها «أنه من غري الصحيح التسليم بأن الواحد من شعب "اهلوبي" الذي ال يتكلم سوى لغة "اهلوبي" وليس لديه سوى األفكار الثقافية املتعلقة مبحيطه اخلاص يكون لديه نفس مفهوميالزمان واملكان اللذي ن لدينا وهما مفهومان غالبا ما ي فرتض أنهما ذ و ا مصدر حدسي وي عتربان عموما كون ي ني. وبصورة خاصة فليس هناك ذلك املفهوم أو احلدس العام للزمان الذي مبقتضاه يبدو هذا األخري متصال متدفقا بانتظام«)43(. إن هذا النص يكشف منذ البداية أن "وورف" يعتقد أن إدراكنا للعامل يتحدد ب"اللغة األم" اليت نتكلمها وهو التصور نفسه الذي وجدناه عند "همبولت". وبالفعل فإن "وورف" يؤكد بأن دراسته املعمقة للغة "اهلوبي" كشفت له بأنه ال يوجد فيها أي عنصر لغوي يرتبط بصورة مباشرة مبفهوم الزمن فليس يف هذه اللغة كلمات أو عبارات أو صور حنوية حتيل إىل التقسيم الذي حندثه حنن يف الزمان من ماض وحاضر ومستقبل أو ما يوحي مبفهوم الدميومة أو املدة اخل ومن ثم»فإن لغة "اهلوبي" ال تنطوي على أية مرجعية للزمن بطريقة صرحية أو ضمنية«)44(. وملا كانت لغة "اهلوبي" هذه وبهذه الصورة قادرة على وصف كل الظواهر الكونية بطريقة براغماتية وصحيحة فيلزم عن ذلك أن فكر "اهلوبي" خال متاما من كل مفهوم للزمن الذي مير. وهكذا تبدو لغة "اهلوبي" حاملة ل"رؤية للعامل" غري مألوفة لدينا. إن كل لغة حتتوي حدودا وصيغا لفظية للتعبري عن حقل ذي مرجع كوني تبلور يف ذاتها املسل مات األساسية مليتافيزيقا غري معلنة وغري مصاغة وهي مسل مات حتتوي فكرا متعلقا بشعب أو ثقافة أو حضارة مثل األلفاظ اليت نعرب بها عن الواقع أو اجلوهر أو السبب أو احلاضر أو املاضي اخل... غري أن لغة "اهلوبي" تكشف عن أنها ليست يف حاجة إىل األلفاظ اليت تعرب عن الزمان واملكان من حيث هما كذلك ففي حني «أنه بالنسبة إىل لغتنا حتتل ألفاظ من هذا القبيل مكانا واضحا يف عبارات تدل على فكرة االمتداد وفكرة الظاهرة أو السريورة الدورية ]...[ فإن لغة "اهلوبي" حينئذ تستغين متاما يف األفعال عن فكرة الزمن«)45(. ويذهب "وورف" إىل أن املشكلة املتعلقة بطريقة التفكري وتكو ن الصور الذهنية لدى اجملتمعات البدائية ليست ذات طابع سيكولوجي صرف كما قد ي ت ص و ر وهلذا فليس من الصواب أن يهمل الباحث يف جمال اإلثنولوجيا تلك األسئلة املتعلقة بطريقة تفكري الشعوب البدائية ومقارنتها بطريقة تفكرينا معتربا إياها لغزا ذا طابع نفسي. وتعترب الدراسات اللسانية يف نظر "وورف" املسلك األمثل ملقاربة هذه املشكلة ألن الفكر بالنسبة لأللسين ينطوي على عنصر لغوي هام ذي طبيعة بنيوية. وهلذا ميكن القول إن الفكر هو جمال اللغة بامتياز كما ميكن اعتباره الوظيفة اللغوية األساسية. إن كوننا نتكلم دون بذل جهد كبري مع عدم الوعي مبدى تعقيد اآللية اليت تتدخل يف هذه العملية قد يكون سببا يف تكوين تصورات خاطئة يف هذا الشأن. فنظرا إىل السهولة الكبرية فياستعمال اللغة تبدو لنا معرفتنا بها يف منتهى البداهة والواقع أن هذه البداهة حتجب عنا حقائق كثرية متعلقة باللغة. فاإلنسان العادي ال يدرك القوى اللغوية اليت تؤثر فيه فهو يعتقد أن فعل الكالم نشاط يتصرف فيه بطريقة متحررة من كل القيود وهلذا فهو ليس يف حاجة إىل إعطاء تفسريات لآللية اليت يتم وفقها هذا النشاط ما دام يستطيع التصرف فيه حسب ما تقتضيه احلاجات االجتماعية. والواقع أن الكالم والتفكري عمليتان تنطويان على أسرار خفية ال ميكن الكشف عنها إال بالدراسة العلمية لل غة. إن هذه الدراسة تكشف عن أن صورة األفكار حمكومة بقوانني بنيوية حتمية ال شعورية فالفرد يتكلم وفق بنى معقدة وغري مدركة داخلة يف تنظيم لغته ميكن الكشف عنها مبقارنة اللغات وبالتالي فإن تفكريه يتم وفق البنية اليت تنطوي عليها اللغة»حيث إن كل لغة هي نسق كبري من البنى خمتلف عن األنساق األخرى ينطوي على تنظيم ثقايف للصور واملقوالت ال يسمح للفرد بالتواصل فحسب بل أيضابتحليل الواقع ومالحظة بعض أصناف العالقات والظواهر أو إهماهلا وتوجيه استدالله وتعليم جمال وعيه شيئا فشيئا» )46(. وملا كانت هذه البنى الشعورية فإن األفراد الذين يستعملون األنساق املعقدة للغة ما بسهولة وطالقة ال يدركون وجودها إال بعد أن يتم إثباتها هلم وبصعوبة. إن الظواهر الكالمية األساسية على املستوى الصوتي حمكومة بنماذج غري نابعة من الوعي الشخصي واألمر نفسه كذلك بالنسبة إىل املستويات العليا لل غة املتمثلة يف التعبري عن األفكار فالتفكري عند الفرد «47 األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية. ب/ قسم األداب و الفلسفة. العدد - 18 جوان ص

9 د. مصطفى بلبولة يتبع هو أيضا شبكة من املسالك اليت رمستها لغة معينة وهي تنظيم يربز بصورة نسقية بعض أوجه الواقع وبعض مظاهر الذكاء وي بعد بالصورة النسقية نفسها أوجه ا ومظاهر أخرى هي أ ت ها لغات أخرى للتمث ل» )47( وال يقع هذا التنظيم الذي خيضع له الفرد يف تفكريه ومتثله للواقع بشكل كلي حتت سلطة الوعي فنحن نسقط العالقات اللغوية على العامل دون أن نعي ذلك. إن الفهم العلمي ل ب ن ى اللغات املختلفة يفتح لنا نوافذ جديدة على العامل كما تدركه الشعوب اليت ال نتكل لغاتها وتصبح تلك الكيفيات "الغريبة" إلدراك العامل مألوفة ومعقولة لدينا وتسمح لنا برؤية األشياء وفق منظور جديد حيث تصبح كل لغة مبثابة "املوناد" )عند ليبنتز( الذي يعكس العامل من زاويته اخلاصة وهذه هي الصورة اليت قدمها لنا "همبولت" من خالل مفهوم "رؤية العامل" اخلاصة بكل لغة. إن البحث العلمي اجلاد يف اللغاتيكشف لنا عن وجود ثقافات وذهنيات للشعوب ختتلف بشكل واضح عما هو معروف لدينا «فاملقوالت النحوية اخلاصة بكل لغة واليت ختتلف من ثقافة إىل أخرى تتوافق مع كيفيات [ خاصة ] يف التقسيمات اليت خيضع هلا العامل وكيفية إدراكه.إن الطبيعة اللغوية ملقوالت الفكر تستلزم أن كل لغة يف تفر دها تنطوي على ميتافيزيقا خفية«)48( وبالتالي فإن تنوع رؤى العامل عرب اللغات أمر يدل على نوع من النسبية اللغوية الثقافية حيث إن كل ثقافة تنظم العامل احمليط بها عن طريق لغتها اخلاصة. يعيب "وورف" على بعض علماء األنثروبولوجيا قصورا يف الرأي عندما ال يرون يف اللسانيات سوى بطاقية متخصصة حمشوة مبعطيات تقنية مم ل ة ومنف رة وال يرون فيها سوى أداة ثانوية ال قيمة هلا بالنسبة إىل األنثروبولوجيا. إنهم يغفلون عن كون الوظيفة اجلوهرية لل سانيات هي البحث عن الدالالت. وهلذا فليس من املبالغة يف شيء وال من العبث أن ي عك ف على تسجيل تلك الفروق الدقيقة املتعلقة باألصوات واأللفاظ والبنى النحوية ألن مثل هذا العمل الذي تقوم به اللسانيات «يهدف يف واقع األمر إىل إلقاء الضوء على جوانب غامضة يف اللغة وبالتالي على جزء كبري من عامل الذهن ومن الثقافة ومن رؤية العامل اخلاصة جبماعة بشرية معينة وذلك بفضل الدقة اليت يتميز بها علم الدالالت» )49(. وليس عسريا أن ندرك هنا جبالء أن املهمة اليت يلحقها "وورف" بالدراسات اللغوية هي على وجه التحديد نفس ما كان يرمي إليه "همبولت" ألن هذا األخري كان يرى هو أيضا يف دراسة اللغات مسلكا آمنا للكشف عن رؤى العامل اليت حتملها الثقافات واألمم وبالتالي فإنه كان يعترب هذه الدراسات اللغوية أسلوبا ذا جناعة كبرية يف األنثروبولوجيا.ومن هنا يبدو االعتماد على الدراسات اللغوية باعتبارها سندا ملقاربة بعض املشكالت الذهنية أمرا مؤس سا ومشروعا وذا أهمية بالغة بالنسبة لألنثروبولوجيا وعلم النفس. إن من شأن هذه املعرفة اليت ستمدنا بها هذه الدراسات أن تلعب دورا حامسا يف تاريخ البشرية إذ إن مجيع املشكالت املتعلقة بضرورة التواصل مع الغري والتفاهم املتبادل بني الناس واحلواجز اليت تفرضها اللغات عليهم والتسيري العقالني لشؤون الناس الرامية إىل تفادي الصدام بينهم وضرورة إجياد توازن يف العالقات اإلنسانية كل ذلك متعلق بدراسة اللغة والفكر )50(. وإذا كان "همبولت" قد أكد على أن االختالف القائم بني اللغات من حيث بنيتها الداخلية وصورها النحوية وطريقة تعبريها عن العامل هو اختالف يف "رؤى العامل" وأن ذلك ليس ذلك مربرا إلقامة أية تراتبية بني اللغات فقد عارض"وورف" بالكيفية نفسها األحكام اجلاهزة عند اإلنسان املعاصر النامجة عن فكرة التطور اليت حجبت عنه احلقيقة ألن الفكرة اليت كانت لديه عن اللغة وعن الفكر استندت إىل معرفة عدد قليل من أصناف اللغات وهو األمر الذي عزز لديه االعتقاد اخلاطئ «بأن طريقة تفكريه واللغات األوروبية اليت اعتمد عليها متثل أعلى نقطة ال ميكن جتاوزها وصل إليها تطور اللغة» )51(. يذهب"وورف" على خطى أستاذه "سابري" إىل أن هناك ارتباطا حقيقيا بني اللغة والثقافة واحلياة النفسية فاإلنسان ال يعيش يف عامل موضوعي فقط وال يعيش يف خضم النشاطات االجتماعية كما يتصورها احلس املشرتك يف العادة وإمنا تتحدد حياته بعناصر لغوية ت شرطه وبالتالي فإنه من اخلطأ االعتقاد بأننا نتكيف مع الواقع مبعزل عن اللغة كما أنه من اخلطأ اعتبار اللغة جمرد أداة مساعدة ملواجهة بعض املشكالت املتعلقة بالتواصل أو بالتفكري. وهو املعنى الذي عرب عنه "سابري" الذي ينقل عنه "وورف" قوله «إن احلقيقة هي أن العامل الواقعي ينبين الشعوريا إىل حد بعيد على العادات اللغوية للجماعة ]...[ فالكيفية اليت نستقبل بها معطيات حواسنا )البصر السمع اخل( تتحدد بنسبة كبرية بالعادات اللغوية حمليطنا الذي جيعلنا م ه ي ئ ني لنوع من التأويل» )52(. ويبلغ التشابه بني هذه األفكار وأفكار "همبولت" حد التطابق فاللغة عند "سابري" و"وورف" هي أكثر من كونها وسيلة للتواصل أو التعبري عن األفكار بل إننا نفكر باللغة وداخل اللغة اليت حتدد كيفية إدراكنا للعامل. وإذا كانت اللغة هي اليت ت ش ر ط إدراكنا للعامل فمن البديهي أن يكون لعناصرها تأثري على السلوك ويكون بذلك ثالوث اللغة والثقافة والسلوك يشكل م رك با من التأثريات املتبادلة ميكن أن نتساءل بشأنه كيف نشأ تارخييا. فهل سبقت الب نى اللغوية املعايري الثقافية أم العكس هو الذي حدث على العموم لقد تطورت هذه وتلك بتوافق مؤثرة بعضها يف بعض باستمرار. ولكن ملا كانت اللغة ذات طبيعة نسقية فإنها تشكل عامال حي د من انتظام دورة التأثري املتبادل ومرونتها ويأخذها يف اجتاهات حمددة بصرامة حيث إن «جمموعة بنيوية بهذا املدى ال ميكنها أن تتحول إىل شيء جديد حقيقة إال بصورة بطيئة يف حني أن كثريا من اإلبداعات الثقافية حتدث بوترية 48 األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية. ب/ قسم األداب و الفلسفة. العدد - 18 جوان ص

10 أسرع نسبيا. وبهذه الصورة فإن اللغة تعكس التفكري اجلمعي إنها تتأثر بهذه اإلبداعات واالبتكارات ولكن ببطء ويف حدود ضيقة جدا يف حني أن املبتكرين واجملددين يتلقونها كما هي وخيضعون لقوانينها» )53(. وهذا يعين أن املفاهيم اليت لدينا عن معطيات التجربة مثل الزمان واملكان واملادة وما إىل ذلك ال ي عرب عنها يف جوهرها بالطريقة نفسها لدى اجلميع وإمنا يتحدد ذلك بطبيعة اللغة اليت أدت إىل ت شك لها وأن هناك عالقة بني املعايري الثقافية والبنى اللغوية وأن الكشف عن هذه العالقة ال يتأتى «برتكيز االنتباه على املعطيات الكالسيكية اليت تزودنا بها التفسريات اللغوية واإلثنوغرافية والسوسيولوجية بقدر ما يكون ذلك بإجراء حتليل على الثقافة وعلى اللغة باعتبارهما ك ال عندما )ويف هذه احلالة فقط ) تكون هذه وتلك قد تطورتا بتواز لفرتة تارخيية طويلة» )54(. من هنا ميكننا أن نالحظ أن هناك تقاطعات كثرية بني ما يذهب إليه "وورف" وبني ما ذهب إليه "همبولدت" من قبل وهو ما يسمح بالقول إن أعمال "وورف" ساهمت يف بعث النقاش املتعلق برؤية العامل. ولكن رغم ذلك فليس من مستلزمات هذا التقاطع أن نعترب "همبولت" مرجعية مباشرة ل"وورف" إذ إن كل ما هنالك أنهما يتقامسان التساؤالت نفسها حول عالقة البنية اللغوية بتمثل الواقع عن طريق اللغة. ومع ذلك يبقى التساؤل قائما: هل يعترب "همبولت" مرجعية مباشرة ل"وورف" و"سابري" وهل االرتكاز على الفرضية املشهورة بامسيهما يسمح برتجيح ذلك إن فرضية "وورف سابري" فرضية يف األنثروبولوجيا واللسانيات فحواها أن نظام التمثالت الذهنية للعامل مرتبط سببيا مبقوالت اللغة ويؤول هذا االرتباط السبب بني اللغة ومتثالت العامل إىل شكل من النسبية الثقافية وهو ما حاول "إدوارد سابري" إثباته ثم تبنى "بنيامني لي وورف" أطروحته ودافع عنها بشكل حاسم. بدأت فرضية "وورف سابري" تتبلور عندما شرع "بنيامني لي وورف" يف دراساته األنثروبولوجية حتت إشراف "إدوارد سابري" ونشأ معها مبدأ "النسبية اللغوية" الذي ينص على أن الفكر تؤطره اللغة اليت تعرب عنه وت شرطه ونشأ معه مبدأ ثان يقضي بأن ثقافة جمموعة بشرية تؤطرها اللغة اليت تتكلمها هذه اجملموعة وهما مبدآن يتعارضان متاما مع التصور الذي كان حتى "دوسوسري" يرى يف اللغة نظاما خاصا مستقال عن العوارض االجتماعية والثقافية. إن التشابه الكبري بني حمتوى فرضية "وورف سابري" وبني ما يذهب إليه التقليد الرومانسي وخباصة "همبولت" قد يدعو إىل باالعتقاد بأن "إدوارد سابري" و"بنيامني لي وورف" قد استوحيا فرضيتهما من ذلك التيار إال أن كثريا من الفالسفة واأللسنيني يستبعدون ذلك. فلسفة اللغة واللسانيات يف الفكر املعاصر:على خطى "همبولت"... قد يبدو األمر غريبا أال يكون "وورف" قد اطلع على آراء "همبولت" اللغوية واألنثروبولوجية وتأثر بها ولكن ما يعزز فرضية عدم استلهام "وورف" أفكاره من فلسفة "همبولت" هو أن األول ال يشري إىل الثاني وال حييل إليه رغم أصالة أفكاره وطابعها الثوري يف حني أنه ي شيد بأعمال كاتب وحب اثة أقل شهرة ومتيزا من فيلسوف "رؤية العامل" وهو الفرنسي "أنطوان فابر دوليف ه"**** D OLIVET( )Antoine FABRE الذي عاصر "همبولت" من بداية حياته إىل نهايتها. ففي سياق حديثهعن التحوالت اللغوية اليت عرفتها بداية القرن التاسع عشر مع اكتشاف اللغة السنسكريتية وانبهار كبار الن حاة ببنيتها النحوية الصورية الصرحية يذكر "وورف" "أنطوان فابر دوليف ه" بكثري من اإلعجاب معرتفا يف الوقت نفسه بعدم تأثريه على عصره قائال»حتى كبار النحاة األوروبيني يف القرن التاسع عشر مل يتجاوزوا أبدا البنى الصورية اليت ميكن الكشف عنها بسهولة ]...[ وليس هناك إال استثناء واحد م ه م هلذه القاعدة إنها من فعل واحد من أولئك العباقرة امل ذه لني الذين حري وا معاصريهم وماتوا دون أن يكون هلم أتباع. ويف حدود ما أعرف فإن اجملدد احلقيقي يف هذا الشأن والذي ندين له مثال مبفاهيم أنظمة العالقات واملقوالت الضمنية ]...[ كان حنويا فرنسيا يف بداية القرن التاسع عشر هو "أنطوان فابر دوليف ه» )55(. مهما يكن من أمر يف هذا الشأن فإنه ال ميكن إنكار القرابة بني آراء "همبولت" وبني وفرضية "وورف سابري". فإذا كان "همبولت" يذهب إىل أن عبقرية األمم تعرب عن نفسها من خالل اللغة فإن فرضية "وورف سابري" تنص على «أن ل غة جمموعة بشرية ما تنظم ثقافتها أي إدراك ها للواقع والتمثل الذي تكو نه عن العامل» )56(. إن القول بارتباط اللغة بالفكر من جهة وارتباطها من جهة أخرى بذهنية األمة وروحها بهذا الشكل جيعلنا أمام ضرب من النسبية اللغوية اليت غالبا ما جنهلها ألننا نلجأ بسذاجة إىل عاداتنا اللغوية الثابتة من أجل الفهم املوضوعي لعامل التجربة. وتنعكس هذه اخلصوصية اللغوية حسب "سابري" يف اإلنتاج األدبي ألنه ما دامت اللغة هي وسيلة التعبري يف العمل األدبي فإن ما جنده من إمكانيات وحتديدات مالزمة ألدب معني لن تكون أبدا هي نفسها يف أدب آخر. فاألدب الذي متت صياغته يف قالب لغوي معني يصطبغ بسمات تلك اللغة وعندما حياول األديب الذي يكون قد أل ف يف لغته األصلية أن ينقل ما كتبه إىل لغة أخرى عن طريق الرتمجة «فإن طبيعة القالب األصلي سرعان ما تظهر فكل ما كتبه كان قد استلهمه بتبصر وحدس من عبقرية لغته اخلاصة وال ميكن نقل هذه اإلجنازات إىل صورة لغوية أخرى دون ضياع بعض العناصر أو تعديلها«)57( ونلمس يف هذا القول مدى التشابه بني ما يذهب إليه "سابري" وبني تلك األطروحات الرومانسية املتعلقة 49 األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية. ب/ قسم األداب و الفلسفة. العدد - 18 جوان ص

11 د. مصطفى بلبولة بإشكالية الرتمجة. وهنا يتساءل "سابري": أليس يف الفن األدبي مستويان خمتلفان ولكنهما متداخالن فن معم م ال يدين للتعبري اللغوي بشيء وبالتالي ميكن نقله إىل لغة أجنبية دون أن يفقد أي شيء وفن مرتبط بشكل خاص باللغة ال ميكن ترمجته إن هذا التمييز مشروع يف نظر "سابري" ألنه إذا كان األدب يستخدم اللغة كوسيلة للتعبري فإن هلذه الوسيلة مظهرين: احملتوى الكموني لكل لغة أي املنتوج احلدسي لتجربتنا والسمات اخلارجية املميزة للغة معينة أي الكيفية اخلاصة اليت ترتجم بها جتربتنا. فإذا ميزنا بني هذين املظهرين فإن األدب الذي يستمد مادته بشكل أساسي من املظهر األول ميكن أن يرتجم دون أن يفقد خصوصيته وأما تلك األعمال األدبية اليت ترتبط باملظهر الثاني فإنها تكون مستعصية على فعل الرتمجة )58(. إن تأثري الصورة اخلاصة باللغة على اإلنتاج األدبي ال ينحصر يف املستوى الصوتي بل إن خلصائصها املورفولوجية مفعوال أكرب حيث يتأثر األسلوب األدبي بشكل واضح مبا تسمح به هذه اللغة أو تلك من إمكانية التصرف يف وضعية الكلمات بعضها بالنسبة إىل بعض داخل اجلملة* كما يتأثر بكون اللغة الصقة أو عازلة )أي ذات بنية تركيبية أو حتليلية(. ومعنى هذا أن طبيعة األسلوب وقوته ليستا راجعتني إىل عبقرية املبدع بل إىل عبقرية اللغة ذاتها اليت تأخذ جمراها الطبيعي وال تسمح للمبدع إال بالنزر القليل إلبراز قدراته اليت تعكس شخصيته. وجند هنا مرة أخرى بعض املواطن اليت تتطابق فيها آراء "سابري" مع أراء "همبولت" إذ إن اللغة بالنسبة إىل كليهما»هي يف ذاتها فن مجاعي للتعبري وخالصة اآلالف واآلالف من احلدوس الفردية فيها يذوب الفردي داخل اجلماعي ولكن التعبري الشخصي يرتك آثارا جندها يف نوع من احلرية واملرونة املالزمتني لكل اإلجنازات اجلماعية للفكر اإلنساني» )59(. وهكذا فإننا جند يف فرضية "وورف "سابري" ابتداء من عناصرها األوىل عند "سابري" واملتمثلة يف أن التنوع اللغوي حقيقة كونية إن على املستوى الصوتي أو على املستوى الداللي وحتى صيغتها النهائية مع"وورف" نوعا من العودة إىل مفهوم "رؤية العامل" الذي أسسه "همبولت". - 4 "إميل بنفينيست" ويف نوع من إعادة اإلحياء ألفكار"همبولت" يذهب "إميل بنفينيست" إىل أن هناك حتديدا متبادال بني الفرد واجملتمع من جهة وبني اللغة من جهة أخرى فوجود الفرد واجملتمع ممكنان عن طريق اللغة. ولكن ملاذا كان وجودهما مؤسسا على اللغة إن ذلك راجع حسب "بنفينيست" إىل مل كة الرتميز اليت ينفرد بها اإلنسان تلك املل كة اليت تسمح له ب» مت ث ل الواقع عن طريق العالمة وفهمها باعتبارها ممث لة للواقع وبالتالي وضع عالقة داللة بني شيء وشيء آخر» )60(. وتعترب مل كة التمث ل الرمزي هذه مصدرا للفكر واللغة واجملتمع. وإذا كان الفكر يف ماهيته هو تلك القدرة على بناء التمثالت فإنه ليس جمرد انعكاس للواقع بل يصنفه ويعيد إنتاجه وفق مقوالته ولكنه «يف هذه الوظيفة التنظيمية يكون مرتبطا ارتباطا وثيقا باللغة إىل حد نكاد أن نطابقفيه بني الفكر واللغة من وجهة النظر هذه» )61(. ويرفض "بنفينيست" التصور الذي يرى يف اللغة والفكر نشاطني متمايزين من حيث املاهية ويؤكد على أن مضامني الفكر تأخذ شكلها فقط عندما تتلبس بالعبارة أي إنها "تتشكل" باللغة ويف اللغة وبالتالي فإن هذه املضامني الفكرية ال ميكنها أن تنفصل عن اللغة أو تستعلي عليها. ولكي يكون هذه احملتوى الفكري قابال لالنتقال «جيب أن يتوزع بني مورفيمات ألصناف ما وأن يكون مرتبا يف نظام ما إخل... باختصار جيب أن مير هذا احملتوى باللغة ويستعري أطرها وإال استحال الفكر بالضبط إىل الشيء أو على كل حال إىل شيء مبهم وغري مميز إىل حد أننا ال منلك أية وسيلة لفهمه كمحتوى متميز عن الشكل الذي متنحه له اللغة» )62(. فاللغة إذن ليست فقط وسيلة لنقل مضامني الفكر بل هي الشرط األول لت ح ق ق ه. وهلذا فإن "بنفينست" يرفض بشدة أن يكون هناك أي معنى لإلشكال"الزائف" الذي يطرح مسألة أسبقية أحدهما على اآلخر أو إذا ما كان من املمكن للفكر أن يستغين عن اللغة أو إذا ما كانت اللغة تشكل عائقا أمام الفكر )63(. بناء على هذا يذهب "بنفينيست" إىل أن ت ت ب ع العالقة احلقيقية بني اللغة والفكر ال بد أن مي ر باستكناه "مقوالت الفكر" و"مقوالت اللغة". وهو يفرتض منذ البداية أن مقوالت فكر ما ليست سوى مقوالت اللغة اليت ي ف ك ر فيها وبها. وجيد يف مقوالت "أرسطو" العشر دليال على ذلك ويبدو له أن ذلك التصنيف الذي وضعه "أرسطو" ملقوالت العقل تصنيف ملقوالت «هي أوال مقوالت لغة وأن "أرسطو" وهو يستدل بصورة مطلقة قد اهتدى ببساطة إىل بعض املقوالت األساسية لل غة اليت يفكر داخلها ]...[. ويبدو لنا أن تلك احملموالت ال تتوافق مع صفات مكتش ف ة يف األشياء بل تتوافق مع تصنيف منبثق من اللغة نفسها» )64(. بهذه الصورة إذن تتضح لنا طبيعة العالقات بني مقوالت الفكر ومقوالت اللغة فيبدو أنه مهما كانت املقوالت اليت حددها "أرسطو" صاحلة للفكر فإنها ليست سوى نقل ملقوالت اللغة من مستوى إىل مستوى آخر ومعنى هذا أن «ما نستطيع قوله هو الذي حيدد وينظم ما نستطيع التفكري فيه» )65(. ووفق هذا املنظور فإن "بنفينست" ينخرط يف االجتاه الذي وضع معامله "همبولت" فاإلنسان ال يستطيع أن يدخل يف عالقة مع العامل إال بتوسط اللغة اليت تعيد إنتاج الواقع وليس معنى إعادة اإلنتاج هنا هو النسخ أو التكرار بل هو إنتاج جديد»ألن الذي يتكلم إمنا يعيد إحياء احلدث وجتربته للحدث عن طريق اخلطاب والذي يسمعه يدرك أوال اخلطاب وعن 50 األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية. ب/ قسم األداب و الفلسفة. العدد - 18 جوان ص

12 طريق هذا اخلطاب يدرك احلدث الذي متت إعادة إنتاجه» )66(. فاللغة إذ تعيد إنتاج العامل إنتاجا متجددا فإنها تشكله وفق مقوالتها وهي بهذا املعنى"لوغوس" الذي يعين عند اليونان اخلطاب والعقل يف آن واحد وهي الفكرة ذاتها اليت أكد عليها "همبولت" من قبل. وهذا االرتباط بني اللغة الفكر ال بد أن يكون هو نفسه جوهر العالقة بني اللغة واألمة عند "إميل بنفينيست" وهذا هو املبدأ الذي أكد عليه التيار الرومانسي وخباصة مع "همبولت" فهذه العالقة ليستمصادفةتارخيية بل هي ارتباط طبيعي حتمي. ومعنى هذا أن اللغة ليست ظاهرة ناجتة عن االجتماع البشري بل هي املبدأ الذي مبقتضاه يتأسس االجتماع ألن بني الطرفني عالقة سببية تبادلية فإذا كانت اللغة بطبيعتها تفرتض وجود اآلخر وبالتالي هي اليت تضمن متاسك اجملتمع عن طريق التواصل فإن اجملتمع يف املقابل هو الشرط الضروري لوجود اللغة وهذه العالقة السببية التبادلية تعبري عن صعوبة التفكري يف وجود أسبقية أحد الطرفني على اآلخر إذ إنه ال ميكن تصور أحدهما مبعزل عن اآلخر )67(. إن البحث عن العالقة بني هذين الكيانني أعين اللغة واجملتمع تكشف عن أنهما متالزمان ومرتابطان بشكل ال يسمح بدراسة أحد الطرفني مبعزل عن اآلخر ألن»اللغة بالنسبة إىل اإلنسان هي الوسيلة الوحيدة لالتصال باإلنسان ]...[ ومن ثم فاجملتمع يكون معطى مع اللغة مباشرة. واجملتمع بدوره ال يكون متماسكا إال باالستعمال املشرتك لعالمات التواصل ومن ثم فإن اللغة تكون معطاة مع اجملتمع مباشرة. وهكذا فإن كل واحد من هذين الكيانني اللغة واجملتمع يستلزم اآلخر» )68(. ويؤكد "بنفينيست" يف سياق تساؤله عن كيفية حتديد العالقة بني الطرفني بغرض دراسة أحدهما عن طريق اآلخر على أن هذه العالقة ليست متاثال بنائيا ألن نظام اجملتمع مغاير لنظام اللغة يف بنيتيهما وال ميكن هلذه العالقة أن تستند على مبدأ تصنيفي ما دام منط اللغة من حيث كونها أحادية املقطع أو متعددة املقاطع إخل... ال يؤثر من قريب أو من بعيد على طبيعة اجملتمع ولن تكون تارخيية ما دامت نشأة أحد الطرفني ليست راجعة إىل نشأة الطرف اآلخر. وهلذا فإنه ينحو إىل اعتبار اللغة وسيلة فقط لتحليل اجملتمع عندما يقول: «وهلذا الغرض فإننا سنضعهما ]= اللغة واجملتمع ] يف عالقة تزامنية ويف عالقة سيميولوجية أي عالقة املؤو ل باملؤو ل وسنصوغ هاتني القضيتني املرتابطتني: أوال اللغة هي مؤو ل اجملتمع وثانيا اللغة تتضمن اجملتمع» )69(. ودليل ذلك أننا نستطيع عزل اللغة ودراستها يف ذاتها دراسة وصفية حتليلية دون االستناد إىل استعماهلا داخل اجملتمع يف حني أنه يستحيل أن ندرس اجملتمع ون ص ف ه خارج اللغة. وبهذ املعنى فإن اللغة تتضمن اجملتمع ولكنها ليست متضم نة فيه «فإذا اعتربنا أن اللغة تؤو ل اجملتمع فإن اجملتمع يصبح داال داخل فلسفة اللغة واللسانيات يف الفكر املعاصر:على خطى "همبولت"... اللغة وباللغة ويكون هو مؤو ل الل غة بامتياز«)70(. إذا ثبتت هذه الوظيفة لل غة من حيث هي مؤو ل للمجتمع فهي اليت جتعل اجملتمع موجودا وحتوله إىل مفهوم معقول. فاللغة بفضل حتويلها للواقع والتجربة إىل نسيج رمزي تكون الوسيلة الفعالة لوصف الطبيعة والتجربة وم ف ه م ت ه ما وهو ما ينطبق على اجملتمع باعتباره مرك با منهما بل إن اللغة تستطيع أن تتخذ أي معطى موضوعا هلا مبا يف ذلك طبيعتها هي نفسها )71(. ولكن مم تستمد اللغة كل هذه السلطة اليت متارسها على الفكر والواقع يذهب "بنفينيست" إىل أن ذلك راجع يف األساس إىل «كون اللغة هي الصورة العليا ملل ك ة مالزمة للطبيعة البشرية وهي ملكة الرتميز» )72(. فالقدرة على الرتميز خاصية إنسانية وهي اليت جتعل منه كائنا عاقال وتتمثل هذه املل كة الرامزة يف القدرة على التجريد الذي بفضله يبين اإلنسان التصورات ويعزهلا عن األشياء امللموسة لتكون بذلك نسخة ذهنية هلا وبهذا الشكل ترتبط هذه املل كة بالتخيل املبدع لدى اإلنسان. فالقدرة على الرتميز إذن هي أساس كل الوظائف املتعلقة بالتصور إنهاتشكل ماهية الفكر الذي «ليس سوى هذه القدرة على بناء متثالت لألشياء وإجراء عمليات على هذه التمثالت فهو يف جوهره رمزي» )73(. إن العملية الرتميزية اليت مبقتضاها يتم حتويل الواقع والتجربة إىل تصورات هي يف واقع األمر العملية نفسها اليت تتحقق بها القوة امل عقل نة للفكر وكأن إنشاء الرمز واستعماله هو احلد الفاصل بني اإلنسان واحليوان حسب "بنفينيست" الذي ال يرى يف الفكر «جمرد مرآة عاكسة للعامل وإمنا هو قدرة على تنظيم الواقع وحتويله إىل مقوالت وهو بهذه الوظيفة التنظيمية مرتبط ارتباطا شديدا باللغة إىل حد يسمح لنا بالقول بوجود متاهي بينهما«)74(. رغم أن األنساق الرمزية وآليات الرتميز متعددة لدى اإلنسان فإن اللغة تشكل حالة خاصة ومتميزة يف هذا اجملال. فهي ت دخ ل الكلمات والتصورات ضمن عالقات وهي بتمثيلها لألشياء تنتج عالمات دالة بصورة اعتباطية إذ ليس بينها وبني مرجعها املادي يف الغالب أي متاثل وهي الوسيلة الوحيدة لكل تفكري استداللي ألنه عن طريقها فقط تنتظم القضايا وتتسلسل يف العمليات االستداللية.وبهذه اخلصائص تؤدي اللغة وظيفة جوهرية بتوسطها بني اإلنسان واإلنسان وبينه وبني والعامل. لكن إذا كانت اللغة من حيث هي مل كة إنسانية فطرية تتوسط بني اإلنسان واإلنسان وبني اإلنسان والطبيعة فال بد أن تتجسد يف الواقع عن طريق لغة خاصة بهذه اجلماعة البشرية أو تلك أعين عن طريق لسان معني وهذا يعين أن تلك العالقة املشار إليها تقودنا إىل اجملتمع إذ «إن اللغة تتحقق دائما داخل لسان أي داخل بنية لسانية حمددة وخاصة ال 51 األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية. ب/ قسم األداب و الفلسفة. العدد - 18 جوان ص